فصل: من لطائف القشيري في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{قُلْ يا أهل أَهْلِ الكتاب}، والمراد بهم: اليهود والنصارى كما قال بعض المفسرين وقال آخرون: المراد بهم اليهود، فقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: «جاء رافع بن حارثة وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف ورافع بن حريملة فقالوا: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا من التوراة وتشهد أنها من الله تعالى حق؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بلى ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق وكتمتم منها ما أمرتم أن تبينوه للناس فبرئت من إحداثكم.
قالوا: فإنا نأخذ بما في أيدينا فإنا على الهدى والحق ولا نؤمن بك ولا نتبعك»
فأنزل الله تعالى فيهم {قُلْ يا أهل أَهْلِ الكتاب}.
{لَسْتُمْ على شيء} أي دين يعتد به ويليق بأن يسمى شيئًا لظهور بطلانه ووضوح فساده، وفي هذا التعبير ما لا يخفى من التحقير، ومن أمثالهم أقل من لا شيء {حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل} أي تراعوهما وتحافظوا على ما فيهما، من الأمور التي من جملتها دلائل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وشواهد نبوته، فإن إقامتهما وتوفية حقوقهما إنما تكون بذلك لا بالعمل بجميع ما فيهما منسوخًا كان أو غيره، فإن مراعاة المنسوخ تعطيل لهما ورَدّ لشهادتهما {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مّن رَّبّكُمْ} أي القرآن المجيد، وإقامته بالإيمان به، وقدمت إقامة الكتابين على إقامته مع أنها المقصودة بالذات رعاية لحق الشهادة واستنزالًا لهم عن رتبة الشقاق.
وقيل: المراد بالموصول كتب أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسلام، وقيل: الكتب الإلهية، فإنها كلها ناطقة بوجوب الإيمان بمن ادعى النبوة وأظهر المعجزة ووجوب طاعة من بعث إليهم له، وقد مر تمام الكلام على مثل هذا النظم الكريم وكذا على قوله تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طغيانا وَكُفْرًا} والجملة مستأنفة كما قال شيخ الإسلام مبينة لشدة شكيمتهم وغلوهم في المكابرة والعناد وعدم إفادة التبليغ نفعًا، وتصديرها بالقسم لتأكيد مضمونها وتحقيقه، ونسبة الإنزال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسبته فيما مر إليهم للإنباء عن انسلاخهم عن تلك النسبة، وإذا أريد بالموصول النعم التي أعطيها صلى الله عليه وسلم فأمر النسبة ظاهر جدًا.
{فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين} أي لا تأسف ولا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم، فإن غائلة ذلك موصولة بهم وتبعته عائدة إليهم، وفي المؤمنين غنى لك عنهم، ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالرسوخ في الكفر، وقيل: المراد لا تحزن على هلاكهم وعذابهم، ووضع الظاهر موضع الضمير للتنبيه على العلة الموجبة لعدم الأسى، ولا يخلو عن بعد. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}.
هذا الّذي أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوله لأهل الكتاب هو من جملة ما ثبّته الله على تبليغه بقوله: {بلّغ ما أنزل إليك من ربّك}، فقد كان رسول الله يحبّ تألّف أهل الكتاب وربّما كان يثقل عليه أن يجابههم بمثل هذا ولكن الله يقول الحقّ.
فيجوز أن تكون جملة {قل يأهل الكتاب} بيانًا لجملة {بَلِّغ ما أنزل إليك من ربّك} [المائدة: 67]، ويجوز أن تكون استئنافًا ابتدائيًا بمناسبة قوله: {يا أيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك} [المائدة: 67].
والمقصود بأهل الكتاب اليهودُ والنّصارى جميعًا؛ فأمّا اليهود فلأنّهم مأمورون بإقامة الأحكام الّتي لم تنسخ من التوراة، وبالإيمان بالإنجيل إلى زمن البعثة المحمّديّة، وبإقامة أحكام القرآن المهيمن على الكتاب كلّه؛ وأمّا النّصارى فلأنّهم أعرضوا عن بشارات الإنجيل بمجيء الرسول من بعد عيسى عليهما السّلام.
ومعنى {لستم على شيء} نفي أن يكونوا متّصفين بشيءٍ من التّدين والتّقوى لأنّ خَوض الرّسول لا يكون إلاّ في أمر الدّين والهُدى والتَّقوى، فوقع هنا حذف صفة {شيء} يدلّ عليها المقام على نحو ما في قوله تعالى: {فأردتُ أن أعيبَها وكان وراءَهم مَلِك يأخذ كلّ سفينة غصبًا} [الكهف: 79]، أي كلّ سفينة صالحة، أو غير معيبة.
والشيء اسم لكلّ موجود، فهو اسم متوغّل في التنكير صادق بالقليل والكثير، ويبيّنه السّياق أو القرائن.
فالمراد هنا شيء من أمور الكتاب، ولمّا وقع في سياق النّفي في هذه الآية استفيد نفي أن يكون لهم أقلّ حظّ من الدّين والتَّقوى ما داموا لم يبلُغوا الغاية الّتي ذكرتْ، وهي أن يقيموا التّوراة والإنجيل والقرآن.
والمقصود نفي أن يكون لهم حظّ معتدّ به عند الله، ومثل هذا النّفي على تقدير الإعتداد شائع في الكلام، قال عبّاس بن مرداس:
وقد كنتُ في الحرب ذا تُدْرَإٍ ** فلم أعْطَ شيئًا ولم أمْنَع

أي لم أعط شيئًا كافيًا، بقرينة قوله: ولم أمنع.
ويقولون: هذا ليس بشيء، مع أنّه شيء لا محالة ومشار إليه ولكنّهم يريدون أنّه غير معتدّ به.
ومنه ما وقع في الحديث الصّحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل عن الكُهَّان، فقال: «ليْسُوا بشيء» وقد شاكل هذا النَّفيُ على معنى الاعتداد النَّفيَ المتقدّم في قوله: {وإن لم تفعل فما بلّغت رسالاته}، أي فما بلّغت تبليغًا معتدًّا به عند الله.
والمقصود من الآية إنما هو إقامة التّوراة والإنجيل عند مجيء القرآن بالاعتراف بما في التّوراة والإنجيل من التبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم حتّى يؤمنوا به وبما أنزل عليه.
وقد أوْمَأتْ هذه الآية إلى توغّل اليهود في مجانبة الهدى لأنّهم قد عطّلوا إقامة التّوراة منذ عصور قبل عيسى، وعطّلوا إقامة الإنجيل إذ أنكروه، وأنكروا مَن جاء به، ثُمّ أنكروا نبوءة محمّد صلى الله عليه وسلم فلم يقيموا ما أنزل إليهم من ربّهم.
والكلام على إقامة التّوراة والإنجيل مضى عند قوله آنفًا: {ولو أنّهم أقاموا التّوراة والإنجيل} [المائدة: 66] إلخ.
وقد فنّدت هذه الآية مزاعم اليهود أنّهم على التمسّك بالتّوراة، وكانوا يزعمون أنّهم على هدى ما تمسّكوا بالتّوراة ولا يتمسّكون بغيرها.
وعن ابن عبّاس أنّهم جاءوا للنّبيء صلى الله عليه وسلم فقالوا: ألست تقرّ أنّ التّوراة حقّ، قال: «بلى»، قالوا: فإنّا نؤمن بها ولا نؤمن بما عَداها.
فنزلت هذه الآية.
وليس له سند قوي.
وقد قال بعض النّصارى للرّسول صلى الله عليه وسلم في شأن تمسّكهم بالإنجيل مثلَ قول بعض اليهود، كما في قصة إسلام عدي بن حاتم، وكما في مجادلة بعض وفد نجران.
وقوله: {وليزيدنّ كثيرًا منهم ما أنزل إليك من ربّك طغيانًا وكفرًا}، أي من أهل الكتاب، وذلك إمّا بباعث الحسد على مجيء هذا الدّين ونزول القرآن ناسخًا لدينهم، وإمَّا بما في بعض آيات القرآن من قوارعهم وتفنيد مزاعمهم.
ولم يزل الكثير منهم إذا ذكروا الإسلام حتّى في المباحث التّاريخيّة والمدنيّة يحتدّون على مدنيّة الإسلام ويقلبون الحقائق ويتميّزون غيظًا ومكابرة حتّى ترى العالِم المشهود له منهم يتصاغر ويتسفّل إلى دركات التبالُه والتّجاهل، إلاّ قليلًا ممّن اتّخذ الإنصاف شعارًا، وتباعد عن أن يُرمى بسوءالفهم تجنّبًا وحِذارًا.
وقد سمّى الله ما يعترضهم من الشجا في حلوقهم بهذا الدّين {طُغيانًا} لأنّ الطغيان هو الغلوّ في الظلم واقتحام المكابرة مع عدم الاكتراث بلوم اللاّئمين من أهل اليقين.
وسلَّى الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {فلا تأس على القوم الكافرين}؛ فالفاء للفصيحة لتتمّ التّسلية، لأنّ رحمة الرسول بالخَلْق تحزنه ممَّا بلغ منهم من زيادة الطّغيان والكفر، فنبّهتْ فاء الفصيحة على أنّهم ما بَلغوا ما بَلغوه إلاّ من جرّاء الحسد للرسول فحقيق أن لا يحزن لهم.
والأسى الحزن والأسف، وفعله كفَرِح.
وذُكر لفظ {القوم} وأتبع بوصف {الكافرين} ليدلّ على أنّ المراد بالكافرين هم الّذين صار الكفر لهم سجيّة وصفة تتقوّم بها قوميتهم.
ولو لم يذكر القوم وقال: {فلا تأس على الكافرين} لكان بمنزلة اللّقب لهم فلا يُشعر بالتّوصيف، فكان صادقًا بِمَنْ كان الكفر غير راسخ فيه بل هو في حيرة وتردّد، فذلك مرجّو إيمانه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ...} الآية (68).
أي ليس انتعاشكم ولا نظام معاشكم، ولا قَدْركم في الدنيا والعُقبى، ولا مقداركم ولا منزلكم في حال من حالاتكم إلا بمراعاة الأمر والنهي، والمحافظةِ على أحكام الشرع. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ}.
و«قل»- كما نعرف- هي خطاب له صلى الله عليه وسلم، وما يلي ذلك بلاغ من الله لأهل الكتاب إنهم بلا منهج لأنهم لم يقيموا التوراة والإنجيل بل حرفوهما، ولم يؤمنوا بالقرآن، وهو المنهج الكامل المنزل على محمد بن عبدالله.
وحين يقول الحق: {لَسْتُمْ على شَيْءٍ} فكلمة «شيء» تقال لأدنى فرد من أي جنس، فالقشة شيء، وورقة الشجرة شيء، وما يطلق عليه شيء- إذن- هو الأقل.
وقوله الحق: {لَسْتُمْ على شَيْءٍ} أي إياكم أن تظنوا أنكم حين تقومون بتنفيذ جزء من تعاليم التوارة والإنجيل وتخفون الباقي وتهملونه تكونون قد أخذتم شيئًا من الهداية، لا؛ فأنتم لستم على شيء حتى تقيموا التوارة والإنجيل وتؤمنوا بالكتاب الذي أنزل على محمد، والمنهج ليس عرضة لأن تأخذوا منه ما يعجبكم وأن تتركوا ما لا يعبجكم.
وعندما يقال: {لَسْتُمْ على شَيْءٍ}. ونعرف أن الشيء هو أقل مرتبة في الوجود، ولذلك نقول: شيء خير من لا شيء. ويقال بالعامية: هاش خير من لاش و«هاش» هو الهالك من ثياب المنزل الممزقة، أي أن الذي يملك ملابس ممزقة أفضل ممن لا يملك شيئًا على الإطلاق.
وقوله الحق: {لَسْتُمْ على شَيْءٍ حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ} هو إيضاح لهم أنهم في المرتبة الأدنى من الكائنات لأنهم بلا منهج. ويضيف: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} أي أنهم لن يظلوا على درجة واحدة ثابتة من الطغيان والكفر، بل كلما أنزل الحق إليك آية يا محمد، وكلما نصرك الله في أمر ازدادوا هم طيغانًا وكفرًا. وكان من المفروض أن زيادة نزول الآيات لرسول الله صلى الله عليه وسلم تكون إضعافًا لتشددهم وترقيقا لقلوبهم، لكنه سبحانه أراد أن تشتد شراستهم ووحقدهم في أمر الاعتراف بالإسلام.
وقد حدث من خالد بن الوليد وكان فارس الجاهلية ضد الإسلام أن قال لعمرو ابن العاص: لقد استقر الأمر لمحمد. واتجه الاثنان إلى الإسلام على الرغم من أن كلا منهما يعرف قوته ومكانته بين قومه. وبعد أن رأى خالد وعمرو أن الخيبة هي نصيب الواقف ضد محمد مهما علا شأنه. ذهبا إلى الإسلام، وهذا هو موقف المتدبر للأمر دون حقد ولَدَد. أما الذي يزدحم بالمعاناة حقدًا ولددًا فتزيده آيات الله لنصرة منهجه حقدًا ولددًا وطيغانًا؛ لأن الله شاء ألا يهديهم. ولذلك تصير كل آية في صف الإيمان والمؤمنين مصدرَ إثارةٍ وغيظ ومرارة في نفوس أهل الكفر. وهكذا يوطن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره تجاه هؤلاء الكفار.